السلطان قابوس بن سعيد: قائد عماني ملهم وإرث تاريخي لا يُنسى
يعد السلطان قابوس بن سعيد، الذي حكم سلطنة عمان لأكثر من أربعة عقود، واحداً من أبرز الشخصيات السياسية في تاريخ الشرق الأوسط. عرف بحكمته وفطنته، وأدى دوراً محوريًا في تحديث سلطنة عمان وتحويلها إلى دولة حديثة ذات دور كبير على الساحة الإقليمية والدولية. ولد السلطان قابوس في 18 نوفمبر 1940، وبرز بسرعة كقائد استثنائي شق طريقه في السياسة العمانية والعالمية، محققاً إنجازات عظيمة خلال فترة حكمه الممتدة من 1970 إلى 2020. هذا المقال يستعرض مسيرة السلطان قابوس بن سعيد، إنجازاته السياسية، وأثره العميق على عمان والعالم العربي.
نشأته وتعليمه
ولد السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد في مدينة صلالة، جنوب عمان، وكان ينتمي إلى أسرة آل سعيد الحاكمة. نشأ في بيئة قديمة ومترابطة، حيث تلقى تعليمه الأول في عمان قبل أن يواصل دراسته في الخارج. في عام 1958، سافر إلى المملكة المتحدة حيث درس في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية، وهي واحدة من أبرز الأكاديميات العسكرية في العالم. هذا التدريب العسكري أثر بشكل كبير في تكوين شخصيته القيادية وقدرته على اتخاذ القرارات الصائبة في أصعب الظروف.
كما تلقى السلطان قابوس تعليماً أكاديمياً في مجال الشؤون السياسية والاجتماعية. فتخرج في الأكاديمية العسكرية الملكية، ثم تابع دراسته في جامعة أكسفورد، مما منحه معارف غنية في الاقتصاد والسياسة. تركت هذه التجارب التعليمية أثرًا عميقًا في شخصيته، حيث استفاد منها في تطوير سلطنة عمان وتحقيق التحولات الكبيرة التي شهدتها البلاد.
تولي الحكم: بداية مرحلة جديدة لعمان
في 23 يوليو 1970، وقع حدث تاريخي غير مجرى الحياة في عمان. تمكّن السلطان قابوس من تولي الحكم بعد نجاحه في انقلابٍ سلمي ضد والده السلطان سعيد بن تيمور، الذي كان يعاني من عزلة داخلية وخارجية. هذا التغيير جاء في وقت كانت عمان تمر بظروف صعبة، حيث كانت تعاني من الجمود السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى التحديات العسكرية الداخلية مع الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي.
عندما تولى قابوس بن سعيد الحكم، كان عليه أن يواجه العديد من التحديات. أولها، تجديد السياسات العمانية لتواكب التغيرات الإقليمية والعالمية، وإرساء قواعد لدولة عصرية قادرة على التفاعل مع مختلف الأزمات السياسية والاقتصادية. لكن السلطان قابوس كان يدرك تماماً الحاجة إلى التغيير، واستخدم ذكاءه وقيادته الحكيمة لإعادة بناء عمان من خلال تطوير المؤسسات السياسية وتعزيز الاستقرار الداخلي، ما ساعد على جعل عمان دولة ذات سيادة وفاعلة في الإقليم.
الإنجازات الداخلية: بناء الدولة العصرية
تحت حكم السلطان قابوس، شهدت عمان تحولات غير مسبوقة في جميع جوانب الحياة. واحدة من أولى أولوياته كانت تطوير البنية التحتية في عمان، وهو ما تحقق من خلال مشاريع ضخمة في مختلف القطاعات مثل التعليم، الصحة، المواصلات، والإسكان. أول خطوة قام بها هي تعزيز التعليم من خلال بناء المدارس الحديثة وتوسيع الجامعات، ما أسهم في تحسين المستوى التعليمي للمواطن العماني.
على الصعيد الاقتصادي، أطلق السلطان قابوس خطة استراتيجية للنهوض بالاقتصاد العماني من خلال الاستثمار في البنية التحتية وإنشاء مشاريع كبيرة، بالإضافة إلى تحسين قطاع النفط والغاز. لعبت عمان دورًا رئيسيًا في استقرار أسواق النفط العالمية بفضل سياسة السلطان قابوس الحكيمة. ومن خلال سياسة التنوع الاقتصادي، سعى السلطان إلى تقليل اعتماد عمان على قطاع النفط عبر تعزيز الصناعات الأخرى مثل السياحة والتصنيع.
في مجال الرعاية الصحية، جرى تنفيذ مشاريع صحية عملاقة أسهمت في تحسين مستوى الخدمات الطبية في عمان. بنى السلطان قابوس العديد من المستشفيات والمراكز الصحية المتطورة، مما جعل عمان واحدة من الدول الرائدة في مجال الرعاية الصحية في المنطقة.
الانفتاح السياسي والدبلوماسي: عمان في الساحة الدولية
من أبرز جوانب حكم السلطان قابوس بن سعيد هو السياسة الخارجية التي انتهجها. كانت عمان تحت قيادته تسعى دائمًا إلى الحفاظ على حيادها وعدم التدخل في شؤون الآخرين. كما قام بتوسيع علاقات عمان مع الدول العربية والغربية على حد سواء، محافظاً على مكانة عمان في العالم، وموظفاً سياسة السلام والوساطة في حل النزاعات الإقليمية.
في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لعبت عمان دورًا مهمًا في السياسة العربية والدولية من خلال دبلوماسية نشطة ساهمت في تعزيز العلاقات مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. كما كان السلطان قابوس صاحب دور محوري في تعزيز العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، وكان يحرص دائمًا على التوازن بين تعزيز استقلالية عمان من جهة، والمشاركة الفاعلة في قضايا المنطقة من جهة أخرى.
وكانت عمان تحت حكمه تشتهر بسياستها المتوازنة والهادئة، حيث رفضت أن تكون جزءًا من أي تحالفات عسكرية أو سياسية تزعزع استقرار المنطقة. بدلاً من ذلك، عمل السلطان قابوس على تجنب التورط في النزاعات الكبرى، مما جعل عمان مركزًا للدبلوماسية والتفاوض.
دور السلطان قابوس في الوساطة الإقليمية والدولية
كانت سياسة السلطان قابوس الخارجية تتمحور حول تحقيق السلام وحل النزاعات عبر الحوار. ولهذا السبب، كانت عمان في كثير من الأحيان تلعب دور الوسيط في النزاعات الإقليمية والدولية. من أبرز ملامح هذه السياسة كانت الوساطة في الحرب بين إيران والعراق في الثمانينيات، وكذلك دورها في حل الأزمة اليمنية والحفاظ على الاستقرار في البحر الأحمر.
حظيت عمان باحترام واسع في العالم العربي والعالمي نتيجة لسياستها المتوازنة وحيادها الدائم. كما عمل السلطان قابوس على تعزيز العلاقات مع جيرانه مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، بينما في نفس الوقت احتفظ بعلاقات قوية مع الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وهو ما ساعد على تأمين مصالح عمان في الساحة الدولية.
السلطان قابوس: إرثه وتأثيره على عمان
توفي السلطان قابوس بن سعيد في 10 يناير 2020 بعد أن حكم عمان لأكثر من 49 عامًا. ورغم أن السلطان قابوس رحل عن الحياة، إلا أن إرثه لا يزال حاضراً في قلب كل عماني وفي الساحة الإقليمية والدولية. فبفضل رؤيته الثاقبة وإصلاحاته الجذرية، أصبحت عمان دولة أكثر تطورًا وازدهارًا في مختلف الجوانب.
لقد نجح السلطان قابوس في بناء دولة حديثة ومتقدمة، وفي الوقت نفسه، حافظ على الهوية العمانية التقليدية التي شكلت جزءًا أساسيًا من ثقافة البلاد. جعل السلطان قابوس من عمان دولة يسود فيها الاستقرار والازدهار، وأثبت أن السياسة المعتدلة والنظرة البعيدة يمكن أن تحقق النجاح على المدى الطويل.
وإلى جانب إنجازاته السياسية، فقد عرف السلطان قابوس بشخصيته الإنسانية القوية واهتمامه بشعبه. كان دائمًا قريبًا من قلوب العمانيين، ويولي اهتمامًا بالغًا لمشاكلهم اليومية. ومن خلال قيادته الحكيمة، خلق حالة من الوحدة والتماسك الوطني في البلاد.
خاتمة
على الرغم من رحيل السلطان قابوس بن سعيد، إلا أن تأثيره على عمان والعالم العربي لا يزال قائماً. إرثه السياسي والاقتصادي والثقافي يظل مصدر إلهام للأجيال القادمة، وتظل عمان في قلبه باقية على مسار التقدم والتطور الذي وضعه خلال سنوات حكمه الطويلة.
